((الوعد الكاذب)) من مقالات الشخ عمر عبدالكافي
صفحة 1 من اصل 1
((الوعد الكاذب)) من مقالات الشخ عمر عبدالكافي
الوعد الكاذب
د. عمر عبدالكافي
تصرف من حلقات آفات اللسان
ومن الآفات التي ابتليت بها الأمة في هذا الزمان: آفة الوعد الكاذب، أو الخلف في الوعد، أو الكذب في الوعد.
أولاً، لسان العبد دائماً سبّاق إلى أن يعد، وإذا تعوّد الإنسان هذا، أن يعد بلسانه، تجد أنه بعد ذلك ليست عنده الاستطاعة أو الملكة أو القدرة على تحقيق ما وعد به؛ فيصير هذا الوعد إخلاف وخلف. وهذه علامة، والعياذ بالله رب العالمين، من علامات النفاق، والله عز وجل يأمرنا: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة:من الآية1).
إن الله سبحانه مدح نبيه إسماعيل عليه السلام في كتابه العزيز فقال: (إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً) (مريم: من الآية 54) يعني انظر إلى هذه الصفة العظيمة التي تلتصق بهذا الإنسان العظيم، إسماعيل بن إبراهيم عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، صادق الوعد، هكذا يعلّم النبي صلى الله عليه وسلم كيف يكون الإنسان المسلم الملتزم بدين الله عز وجل صادق الوعد. هذا عبدالله بن عمرو، رضي الله عنهما، وكان من أعبد الناس، ومن أتقى الناس، لما حضرته الوفاة قال: إنه كان خطب إليّ ابنتي رجل من قريش، وقد كان إليه مني شبه الوعد، فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق، أشهدكم أني قد زوجته ابنتي (1).
يعني: لأن الذي يخلف الوعد يكون مع الكذب في اليمين ومع خيانة العهد، هكذا يكون صفات المنافق الثلاث، ثلثها إخلاف الوعد......
ولذلك نريد أن نعلم أبنائنا ونساءنا وبناتنا وإخواننا وتلاميذنا ألا يفعل شيئاً إلا أن يقول "إن شاء الله" قال تعالى: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (الكهف: 23-ومن الآية24). هذا إسماعيل يقول له أبوه عليه السلام: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات:102). وهذا كليم الله موسى قال له الرجل الصالح، الخضر، قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) (الكهف:67-69).، أي أمر لا تقدم فيه المشيئة، أولاً: دليل على سوء أدب العبد مع الله عز وجل، ثم دليل على أن الإنسان لا يراعي صدق التوكل على رب العباد، وإدخال المشيئة في صغير الأمر وكبيره.
وأن الإنسان قد تغره قوته أو علمه أو جاهه أو منصبه أو ماله فيظن أن هذه هي التي تسيّر الأمور، إنما الذي يسيّرها هو رب العباد سبحانه وتعالى. لذلك من الأولى أن الإنسان إذا وعد وعداً يقول عسى لأن ربما لا يستطيع. لكن يسأل بعض الناس: أنا أعد وعداً، ثم لا أستطيع أن أوفيه بعد ذلك، فهل هذا من خلف الوعد؟ أو هل هذا من الوعد الكاذب؟ نقول له: لا، أنت وأنت تعد تكون في نيتك أنك تفي ولكن تأتي ظروف وملابسات تفوق قدرتك وإمكانيتك، وتفوق استطاعتك، فلا تستطيع أن تنفذ ما وعدت به، عندئذ لا تكون منافقاً إن شاء الله رب العالمين. لكن النفاق أن تعد وأنت عازم على ألا تفي، يعني أنت تعطي الوعد وأنت تعزم أنك لا تفي فهذا هو النفاق المرذول الذي ينهى عنه النبي ويحذرنا منه صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان" (2) وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم. انظر إلى أركان الدين، وكأن هذه من أركان الدين الأساسية. الإنسان يصدق في الحديث، الإنسان يعني يوفي بالوعد، الإنسان يعني لا يخون في الأمانة بمعناها الواسع.
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خلة منهن، كان فيه خلة من النفاق حتى يدعها، إذا حّدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" (3). وهذه صفة المنافق، والعياذ بالله رب العالمين، أنه إذا وعدك وعداً فهو يخلف هذا الوعد ولا ينفذه، وإذا حدثك حديثاً فهو كاذب فيه، وإن عاهدك عهداً فإنما هو يغدر وإذا خاصم فإنما هو يفجر؛ لأنه يخرج الضغائن التي في داخله. أما من يعزم على الوفاء بعهد أو بوعد ما وجاءه عذر يمنعه من هذا الوفاء لا يكون بذلك منافقاً، لأن من رحمة الله بهذه الأمة أنه غفر لأمة النبي صلى الله عليه وسلم الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (4). ولعلنا قرأنا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وفي خلقه العظيم الذي مدحه به ربه حيث قال سبحانه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4).
ومن أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم في الوفاء بالوعد، والوفاء بالعهود المقطوعة، ما ورد عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه سمع عمر، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً عند الظهيرة فوجد أبا بكر، رضي الله عنه، في المسجد جالساً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما أخرجك في هذه الساعة"؟ قال: يا رسول الله، ما أخرجك؟ قال: "أخرجني الذي أخرجك"، ثم إن عمر، رضي الله عنه، جاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا ابن الخطاب ما أخرجك هذه الساعة"؟ قال: أخرجني يا رسول الله الذي أخرجكما، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثهما فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هل بكما من قوة فتنطلقان إلى هذا النخل فتصيبان من طعام وشراب"؟ فقلنا: نعم يا رسول الله، فانطلقنا حتى أتى مالك بن التيهان أبا الهيثم الأنصاري، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيدينا فاستأذن عليهم، وأم أبي الهيثم تسمع السلام تريد أن يزيدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من السلام، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصرف خرجت أم أبي الهيثم تسعى، فقالت: يا رسول الله، قد سمعت تسليمك ولكن أردت أن تزيدنا من سلامك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين أبو الهيثم "؟ قالت: قريب يا رسول الله، ذهب يستعذب لنا من الماء، ادخلوا الساعة يأتي، فبسطت لهم بساطاً تحت شجرة حتى جاء أبو الهيثم مع حماره، وعليه قربتان من ماء، ففرح بهم أبو الهيثم، وقرب تحيتهم، وصعد أبو الهيثم على نخلة فصرم أعذاقاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حسبك يا أبا الهيثم "، فقال: يا رسول الله تأكلون من بسره ومن رطبه، وتلذوا به ثم أتاهم بماء فشربوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا من النعم الذي تسألون عنه"، ثم قام أبو الهيثم إلى شاة ليذبحها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إياك واللبون"، ثم قام أبو الهيثم، فعجن لهم، ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رؤوسهم فناموا، فاستيقظوا وقد أدرك طعامهم، فوضعه بين أيديهم فأكلوا وشبعوا، وحمدوا الله، وأتاهم أبو الهيثم ببقية الأعذاق، فأصابوا منه، وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لهم بخير، ثم قال لأبي الهيثم: "إذا بلغك أنه قد أتانا رقيق فأتنا"، قال أبو الهيثم: فلما بلغني أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقيق أتيت المدينة، فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم رأساً، فكاتبته على أربعين ألف درهم فما رأيت رأساً كان أعظم بركة منه " (5).
يا مـن له الأخـلاق ما تهـوى العـلا منها وما يتعشـق الكبـراء
زانتك في الخلق العظيم شمـائل يغـرى بهـن و يولـع العظمــاء
فـإذا رحمـت فـأنت أم أو أب هـذان في الدنيـا هـم الرحمــاء
وإذا أخـذت العـهد أو أعـطيته فجميـع عهــدك ذمـة ووفــاء
أخوة الإسلام، القضية كلها نريد أن نكون من الذين يوفون بالعهد، كما قال تعالى: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) (البقرة:من الآية177) وهؤلاء الذين مدحهم الله سبحانه وتعالى في كتابه ومدحهم النبي صلى الله عليه وسلم وحذّر من هؤلاء الذين يطلقون الوعود الكاذبة ولا يوفون بالوعد التي قطعوها على أنفسهم. يجب أن نستفيق لأننا نريد أن نكون قدوة لأبنائنا في الأقوال والأفعال، وإذا وعدنا شيئاً فلا يجب أبداً أن نخلف في الوعد، أو لا ننفذ الوعد، لأن الابن والبنت يكبر كلاهما على السلوك الذي يراه من أبيه وأمه.
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوّده أبوهو
الإنسان يعني يجب أن يتذكر دائماً إذا ما تاب وأقلع عن ذنب معين، وأراد الشيطان أن يغويه ويعود مرة أخرى إلى الذنب الذي كان يصنع قبل التوبة، عندئذ يتذكر الإنسان وعده وعهده مع رب العباد سبحانه وتعالى أنه تاب وأقلع. فهذا من الأشياء التي تشجع الإنسان على الاستمرار في الطاعة وعلى التوبة، والاستمرار على حب الطاعة وكراهية وبغض المعصية والبعد عنها، فيتذكر الإنسان عهده مع رب العباد عز وجل، قل: لقد عاهدت ربي كذا وكذا وعاهدت ربي ألا أعود لمثل هذا الذنب. فمثلاً، إذا تاب الله عز وجل عن مغتاب في غيبته، أو عن نمّام فيما ينم أو عن كذّاب فيما كان يكذب أو عن مدخن فيما كان يصنع، يأتي الشيطان ليقول له اغتب فلان، نمّ في حق فلان، دخّن هذه السيجارة، اصنع هذا، يقول الإنسان لنفسه ساعتها لقد وعدت وعداً وعاهدت ربي عهداً ألا أعود لمثل هذا الذنب، فيجب أن أتقي وأستحي من الله عز وجل ولا أخلف وعدي مع الله، ولا يكون وعدي كاذباً ولا أخلف عهدي مع الله، ولا يكون عهدي كاذباً، ولا أقول كلاماً وأنفذ كلاماً آخر، عندئذ يصير الإنسان بهذا المنطق محافظاً على سلوكياته وعلى استقامته وعلى نقاء سريرته ونقاء أعماله واستقامة أحواله، هكذا العبد الذي يريد أن يسلك طريق الصالحين.
أخوة الإسلام، إننا لا يجب أن نحافظ على إنفاذ الوعد فقط، وننهى أنفسنا عن إخلاف الوعد وننهى أنفسنا عن الكذب في الوعد، ولكن يجب حقيقة الأمر أن نعلم هذا سلوكا عمليا لأبنائنا وبناتنا ونكون قدوة في بيوتنا حتى يكبر أبناؤنا على الصدق والوفاء بالعهد ونحن وهم من الذين أمرهم رب العباد سبحانه وتعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة:من الآية1) هذه العقود التي يجب أن نوفي بها. يجب أن نكون في هذا الأمر تبعا لهذه الصفة العظيمة التي وصف بها إسماعيل عليه السلام (إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْد) (مريم:من الآية54).
د. عمر عبدالكافي
تصرف من حلقات آفات اللسان
ومن الآفات التي ابتليت بها الأمة في هذا الزمان: آفة الوعد الكاذب، أو الخلف في الوعد، أو الكذب في الوعد.
أولاً، لسان العبد دائماً سبّاق إلى أن يعد، وإذا تعوّد الإنسان هذا، أن يعد بلسانه، تجد أنه بعد ذلك ليست عنده الاستطاعة أو الملكة أو القدرة على تحقيق ما وعد به؛ فيصير هذا الوعد إخلاف وخلف. وهذه علامة، والعياذ بالله رب العالمين، من علامات النفاق، والله عز وجل يأمرنا: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة:من الآية1).
إن الله سبحانه مدح نبيه إسماعيل عليه السلام في كتابه العزيز فقال: (إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً) (مريم: من الآية 54) يعني انظر إلى هذه الصفة العظيمة التي تلتصق بهذا الإنسان العظيم، إسماعيل بن إبراهيم عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، صادق الوعد، هكذا يعلّم النبي صلى الله عليه وسلم كيف يكون الإنسان المسلم الملتزم بدين الله عز وجل صادق الوعد. هذا عبدالله بن عمرو، رضي الله عنهما، وكان من أعبد الناس، ومن أتقى الناس، لما حضرته الوفاة قال: إنه كان خطب إليّ ابنتي رجل من قريش، وقد كان إليه مني شبه الوعد، فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق، أشهدكم أني قد زوجته ابنتي (1).
يعني: لأن الذي يخلف الوعد يكون مع الكذب في اليمين ومع خيانة العهد، هكذا يكون صفات المنافق الثلاث، ثلثها إخلاف الوعد......
ولذلك نريد أن نعلم أبنائنا ونساءنا وبناتنا وإخواننا وتلاميذنا ألا يفعل شيئاً إلا أن يقول "إن شاء الله" قال تعالى: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (الكهف: 23-ومن الآية24). هذا إسماعيل يقول له أبوه عليه السلام: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات:102). وهذا كليم الله موسى قال له الرجل الصالح، الخضر، قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) (الكهف:67-69).، أي أمر لا تقدم فيه المشيئة، أولاً: دليل على سوء أدب العبد مع الله عز وجل، ثم دليل على أن الإنسان لا يراعي صدق التوكل على رب العباد، وإدخال المشيئة في صغير الأمر وكبيره.
وأن الإنسان قد تغره قوته أو علمه أو جاهه أو منصبه أو ماله فيظن أن هذه هي التي تسيّر الأمور، إنما الذي يسيّرها هو رب العباد سبحانه وتعالى. لذلك من الأولى أن الإنسان إذا وعد وعداً يقول عسى لأن ربما لا يستطيع. لكن يسأل بعض الناس: أنا أعد وعداً، ثم لا أستطيع أن أوفيه بعد ذلك، فهل هذا من خلف الوعد؟ أو هل هذا من الوعد الكاذب؟ نقول له: لا، أنت وأنت تعد تكون في نيتك أنك تفي ولكن تأتي ظروف وملابسات تفوق قدرتك وإمكانيتك، وتفوق استطاعتك، فلا تستطيع أن تنفذ ما وعدت به، عندئذ لا تكون منافقاً إن شاء الله رب العالمين. لكن النفاق أن تعد وأنت عازم على ألا تفي، يعني أنت تعطي الوعد وأنت تعزم أنك لا تفي فهذا هو النفاق المرذول الذي ينهى عنه النبي ويحذرنا منه صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان" (2) وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم. انظر إلى أركان الدين، وكأن هذه من أركان الدين الأساسية. الإنسان يصدق في الحديث، الإنسان يعني يوفي بالوعد، الإنسان يعني لا يخون في الأمانة بمعناها الواسع.
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خلة منهن، كان فيه خلة من النفاق حتى يدعها، إذا حّدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" (3). وهذه صفة المنافق، والعياذ بالله رب العالمين، أنه إذا وعدك وعداً فهو يخلف هذا الوعد ولا ينفذه، وإذا حدثك حديثاً فهو كاذب فيه، وإن عاهدك عهداً فإنما هو يغدر وإذا خاصم فإنما هو يفجر؛ لأنه يخرج الضغائن التي في داخله. أما من يعزم على الوفاء بعهد أو بوعد ما وجاءه عذر يمنعه من هذا الوفاء لا يكون بذلك منافقاً، لأن من رحمة الله بهذه الأمة أنه غفر لأمة النبي صلى الله عليه وسلم الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (4). ولعلنا قرأنا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وفي خلقه العظيم الذي مدحه به ربه حيث قال سبحانه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4).
ومن أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم في الوفاء بالوعد، والوفاء بالعهود المقطوعة، ما ورد عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه سمع عمر، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً عند الظهيرة فوجد أبا بكر، رضي الله عنه، في المسجد جالساً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما أخرجك في هذه الساعة"؟ قال: يا رسول الله، ما أخرجك؟ قال: "أخرجني الذي أخرجك"، ثم إن عمر، رضي الله عنه، جاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا ابن الخطاب ما أخرجك هذه الساعة"؟ قال: أخرجني يا رسول الله الذي أخرجكما، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثهما فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هل بكما من قوة فتنطلقان إلى هذا النخل فتصيبان من طعام وشراب"؟ فقلنا: نعم يا رسول الله، فانطلقنا حتى أتى مالك بن التيهان أبا الهيثم الأنصاري، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيدينا فاستأذن عليهم، وأم أبي الهيثم تسمع السلام تريد أن يزيدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من السلام، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصرف خرجت أم أبي الهيثم تسعى، فقالت: يا رسول الله، قد سمعت تسليمك ولكن أردت أن تزيدنا من سلامك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين أبو الهيثم "؟ قالت: قريب يا رسول الله، ذهب يستعذب لنا من الماء، ادخلوا الساعة يأتي، فبسطت لهم بساطاً تحت شجرة حتى جاء أبو الهيثم مع حماره، وعليه قربتان من ماء، ففرح بهم أبو الهيثم، وقرب تحيتهم، وصعد أبو الهيثم على نخلة فصرم أعذاقاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حسبك يا أبا الهيثم "، فقال: يا رسول الله تأكلون من بسره ومن رطبه، وتلذوا به ثم أتاهم بماء فشربوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا من النعم الذي تسألون عنه"، ثم قام أبو الهيثم إلى شاة ليذبحها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إياك واللبون"، ثم قام أبو الهيثم، فعجن لهم، ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رؤوسهم فناموا، فاستيقظوا وقد أدرك طعامهم، فوضعه بين أيديهم فأكلوا وشبعوا، وحمدوا الله، وأتاهم أبو الهيثم ببقية الأعذاق، فأصابوا منه، وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لهم بخير، ثم قال لأبي الهيثم: "إذا بلغك أنه قد أتانا رقيق فأتنا"، قال أبو الهيثم: فلما بلغني أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقيق أتيت المدينة، فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم رأساً، فكاتبته على أربعين ألف درهم فما رأيت رأساً كان أعظم بركة منه " (5).
يا مـن له الأخـلاق ما تهـوى العـلا منها وما يتعشـق الكبـراء
زانتك في الخلق العظيم شمـائل يغـرى بهـن و يولـع العظمــاء
فـإذا رحمـت فـأنت أم أو أب هـذان في الدنيـا هـم الرحمــاء
وإذا أخـذت العـهد أو أعـطيته فجميـع عهــدك ذمـة ووفــاء
أخوة الإسلام، القضية كلها نريد أن نكون من الذين يوفون بالعهد، كما قال تعالى: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) (البقرة:من الآية177) وهؤلاء الذين مدحهم الله سبحانه وتعالى في كتابه ومدحهم النبي صلى الله عليه وسلم وحذّر من هؤلاء الذين يطلقون الوعود الكاذبة ولا يوفون بالوعد التي قطعوها على أنفسهم. يجب أن نستفيق لأننا نريد أن نكون قدوة لأبنائنا في الأقوال والأفعال، وإذا وعدنا شيئاً فلا يجب أبداً أن نخلف في الوعد، أو لا ننفذ الوعد، لأن الابن والبنت يكبر كلاهما على السلوك الذي يراه من أبيه وأمه.
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوّده أبوهو
الإنسان يعني يجب أن يتذكر دائماً إذا ما تاب وأقلع عن ذنب معين، وأراد الشيطان أن يغويه ويعود مرة أخرى إلى الذنب الذي كان يصنع قبل التوبة، عندئذ يتذكر الإنسان وعده وعهده مع رب العباد سبحانه وتعالى أنه تاب وأقلع. فهذا من الأشياء التي تشجع الإنسان على الاستمرار في الطاعة وعلى التوبة، والاستمرار على حب الطاعة وكراهية وبغض المعصية والبعد عنها، فيتذكر الإنسان عهده مع رب العباد عز وجل، قل: لقد عاهدت ربي كذا وكذا وعاهدت ربي ألا أعود لمثل هذا الذنب. فمثلاً، إذا تاب الله عز وجل عن مغتاب في غيبته، أو عن نمّام فيما ينم أو عن كذّاب فيما كان يكذب أو عن مدخن فيما كان يصنع، يأتي الشيطان ليقول له اغتب فلان، نمّ في حق فلان، دخّن هذه السيجارة، اصنع هذا، يقول الإنسان لنفسه ساعتها لقد وعدت وعداً وعاهدت ربي عهداً ألا أعود لمثل هذا الذنب، فيجب أن أتقي وأستحي من الله عز وجل ولا أخلف وعدي مع الله، ولا يكون وعدي كاذباً ولا أخلف عهدي مع الله، ولا يكون عهدي كاذباً، ولا أقول كلاماً وأنفذ كلاماً آخر، عندئذ يصير الإنسان بهذا المنطق محافظاً على سلوكياته وعلى استقامته وعلى نقاء سريرته ونقاء أعماله واستقامة أحواله، هكذا العبد الذي يريد أن يسلك طريق الصالحين.
أخوة الإسلام، إننا لا يجب أن نحافظ على إنفاذ الوعد فقط، وننهى أنفسنا عن إخلاف الوعد وننهى أنفسنا عن الكذب في الوعد، ولكن يجب حقيقة الأمر أن نعلم هذا سلوكا عمليا لأبنائنا وبناتنا ونكون قدوة في بيوتنا حتى يكبر أبناؤنا على الصدق والوفاء بالعهد ونحن وهم من الذين أمرهم رب العباد سبحانه وتعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة:من الآية1) هذه العقود التي يجب أن نوفي بها. يجب أن نكون في هذا الأمر تبعا لهذه الصفة العظيمة التي وصف بها إسماعيل عليه السلام (إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْد) (مريم:من الآية54).
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى